
تاريخ النشر:
August 23, 2025 at 04:01 PM
3
/ المواصي (خانيونس)
خانيونس
-المواصي
١٣ يوليو ٢٠٢٤

90+

300+

0+
في صباحٍ ثقيل بالحصار والجوع، بدت منطقة المواصي الساحلية قرب خانيونس كأنها آخر ما تبقى من بقعة أمان للنازحين. الخيام البيضاء الممزقة انتصبت على رمالٍ حارّة، وبينها كانت العائلات تبحث عن بعض السكينة، أطفال يلعبون بأحجار الشاطئ، نساء يخبزن على صاجٍ متواضع، وشيوخ يرمقون البحر بأعين منهكة كأنهم يستنجدون بمدٍ يطفئ نار الحرب. كانت المواصي أشبه بجزيرة منفى صغيرة، وعدتها بيانات الاحتلال بأنها "آمنة"، فازدحمت بآلاف الباحثين عن النجاة. لكن فجأة، مزّق هدير الطائرات سكون النهار. لم يمنح الصاروخ الأول أحدًا وقتًا للتفكير؛ دوّت الانفجارات وتعالت معها سحب من الدخان الرمادي، ثم تبعها وابل من القصف جعل الأرض ترتجف تحت أقدام النازحين. الخيام اشتعلت كأوراق هشّة، وتحولت الشاطئ إلى ساحة موتٍ مكشوفة. في ثوانٍ معدودة، غطّت الأجساد الرمال؛ بعضهم تفحّم على موائد طعام لم تكتمل، وآخرون تجمّعوا فوق بعضهم تحت خيمة واحدة صارت رمادًا. الأمهات ركضن بين الصراخ والدمار وهنّ يفتشن عن أبنائهن وسط الغبار، بينما حملت بعض الأذرع الصغيرة بقايا دمى ملطخة بالدم. الجرحى الممددون على الأرض كانوا ينادون بلا مسعفين، إذ لم تصل سيارات الإسعاف إلا بعد أن ابتلع البحرُ صدى الصرخات. مشهد الشاطئ تحوّل إلى لوحة قاسية: أكثر من 90 قتيلًا و300 جريح، جثث مرمية على الرمال، أطباء ميدانيون عاجزون، وأطفال يئنّون بلا دواء. خارج حدود الخيام، علا الغضب والذهول، وصارت صور المواصي تجوب العالم كصرخة دامية: كيف يمكن لمكانٍ أُعلن أنه "آمن" أن يتحول إلى مقبرة جماعية؟ في ذلك اليوم، لم تسقط فقط أرواح عشرات العائلات، بل انهار المعنى كله؛ فالمكان الذي لجأ إليه الناس اتقاءً للموت، صار هو نفسه فخًا للقتل. مجزرة المواصي بقيت شاهدًا على مفارقة غزة الأبدية: أن يصبح الملاذ الأخير ساحة للفناء، وأن يختلط صوت الموج بأنين الضحايا، فيكتب التاريخ صفحة جديدة من الدم على رمالٍ اعتاد الأطفال أن يبنوا عليها قلاعًا من رمل، لا قبورًا جماعية.